اعتقل غرامشي في إيطاليا إنسجاما مع جدل مابين السطور المطروح أعلاه، وفي مستوى استحضار الذاكرة تطرح قضية المفاهيم ونقول: أن عقلية فاشية تحاصر ملف الفئات المهمشة بدافع غريزة العداء المجاني.
كان هناك على أبواب كنائس برلين شيخ كبير اللحية صرخ أمام المارة منشدا: "الجماهير صانعة التاريخ" يقال له ماركس ويكن له الكثيرون العداء رغم أنهم لم يقرؤوا له، فمقولة علي بن أبي طالب حاضرة معنا في زمن القرن الواحد والعشرون: "الناس أعداء ما جهلوا".
ها نحن نستفيق بكلمات مؤثرة في الثقافة الإنسانية عابرة للحدود: غرامشي، ماركس، علي بن أبي طالب وغيرهم كثير، بمختلف اللغات تقرأ تجاربهم، وذاك ما وقع لعبد العالي ومعه من صرخوا بدمك غالي الذين عزفت أناشيدهم بعيدا، فيهم الطويل والقصير النحيف والنحيف (كيف لا وهم المبعدون من قاموس التنمية) فيهم سعيد ومجيد فيهم عبدو وخليفة فيهم أبناء القامات الهامات من دمعت أعينهم القصيرة رافعن أيديهن العتيدة بالدعاء بآيات بصيرة... فيهم كل الأسماء ما حمد وعبد ما رفع ومجد.
يقال بأن الفن تعبير عن مستوى راقي من الإحساس وبأن الأذواق لا تناقش، ذاك ما قاله أحد حاملي الشهادات العليا وكان قبل ذالك قد زار متحف اللوفر بعاصمة الأنوار، سمعته قصيدة من تلك القصائد الرائعة اللواتي أنجبننا ووزعن صدقة المعروف حقنا للدماء وخيرا لخير آت، قالت: كنت أتنقل مع أهلي بين مضارب خيام الصحراء لا اعرف غير سور من الكتاب المقدس يُقرأها لنا شيخ من قبيلة مجاورة وأعمدة من الشعر الجاهلي، غير أن لي رؤية لذوق جميل يثلج صدري بالزمرد والريحان، فنضالكم ومساركم في كل يوم يقدم لي ولنا ولهم لوحة من بناء جديد، فيه الوقوف والقعود، الخلخال والقيد، الشعار تلو الشعار فما أروعكم يا رفاق الإطار.
بتلك الابتسامة الشامخة والذكاء الثاقب عبرت عن رواية بلسان أصحابها وتكوينها الذاتي، فقدمت بذلك رسالة وهي في الأصل موسوعة رسائل، من ذلك أن الأمور تناقش بجدية، وقضية الريع تطال المؤسسات كما العقول، ومن لم يبصر حقيقة الواقع ضاع بين متاحف التملق والزور فكان لوحة بلا لون زهيدة ثمن، كما أن المعروف وغيره من أشكال التضامن العضوي القابعة في المجتمعات التقليدية دالة في العمق على عقلية أصيلة تنسجم والتصور الديني والأخلاقي الشجاع.
وختاما لا حزنا على الفقير، ولا قول كم في النعش من المسامير، فالحرية أروع مقطوعة عزفتها الجماهير.